ينتقل الكذاب إلى الحديث عن نبوة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه فيقول إنه تربى يتيما فى بيت عمه أبى طالب وشارك أهلَه عبادة اللات والعزى بدليل ما جاء فى سورة "الضحى" من قوله تعالى: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى* وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى* وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى"،
ثم لما تزوج بخديجة واغتنى بمالها أراد أن يرأس قومه، لكن لم يتبعه على ذلك إلا القليلون، فما كان منه إلا أن خدع البدو بأنه نبى من عند الله. وسهَّل عليه مهمتَه أنهم لم يكونوا ذوى عهد بالنبوة والأنبياء، فكانوا لا يعرفون كيف يختبرون صدقه، وهكذا صار نبيا
والحق أن هذا كله ليس سوى كذب منتن كالعقل واللسان اللذين خرج منهما: فالرسول لم يعبد اللات والعزى ولا أى صنم فى حياته، وإلا لما سكت عنه المشركون ولجعلوا منه هدفا لتهكمهم الــمُصْمِى عندما جاءهم بدعوة التوحيد، وهم الذين لم يتركوا شيئا فى الدنيا من الأكاذيب إلا وشنّعوا به عليه. ومع ذلك لم يحدث أن قالوا عنه قط إنه كان يعبد الأوثان. أما هداية الله له من الضلال فمن قال إن معناها إنقاذه من الوثنية؟ لقد وردت الكلمة فى مواضع غير قليلة من القرآن الكريم فى غير هذا المعنى، كقوله تعالى على لسان موسى حين عايره فرعون بأنه قتل مصريا ثم فر هاربا فرد عليه قائلا: "فعلتُها إذن وأنا من الضالين" (الشعراء/ 20)، فهل كان موسى وثنيا حين قتل المصرى خطأً؟ طبعا ليس هذا هو المعنى المراد، بل المقصود أنه حين قتل المصرى كان مندفعا مع عاطفة الغضب للإسرائيلى المظلوم، فكان أنْ وكز الظالمَ وكزة عنيفة قضت عليه. ليس ذلك فقط، إذ كانت تهمة فرعون له أنه فعلها وهو من الكافرين، فكان رد موسى أنه إنما فعلها وهو من الضالين لا الكافرين. فالضلال هنا عكس الكفر كما هو واضح، وموسى يتبرأ من الكفر وينسب نفسه للضلال، أى أنه فعل ما فعل عن غير قصد، بل فى نوبة انفعال واندفاع أراد فيها أن يحمى واحدا مظلوما من أبناء قومه، فكان ما كان من قتله المصرى من وكزة لا تقتل عادة. فما رأى غبينا المطموس البصر والبصيرة؟ وكقول إخوة يوسف لأبيهم حين شم قميص يوسف عن بعد وأخبرهم بذلك فقالوا له: "تالله إنك لفى ضلالك القديم" (يوسف/ 95)، أى ما زلت مقيما على حبك ليوسف، فأنت تتوهم الأوهام الباطلة وتتصور أنه لا يزال حيا. ذلك أنهم كانوا يقولون عنه عندما يَرَوْن حبه الشديد ليوسف إنه لفى ضلال مبين، وهو الحب الذى دفعهم للتخلص من أخيهم الصغير حقدا منهم عليه: "إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (يوسف/
. ولا يمكن أن يكون يعقوب وثنيا، وهو النبى ابن النبى ابن النبى! وكقوله سبحانه كذلك لمحمد عليه السلام فى المدينة حين كان يقضى بين الناس ويحكمهم ويحكم بينهم: "وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا" (النساء/ 113)، بمعنى أنه لولا فضل الله عليه لاستطاع أهل طُعْمَة بن أُبَيْرِق سارق الدرع إيهام الرسول عن طريق الكذب بأن الذى سرقها إنما هو اليهودى لا طعمة. فالمقصود بهداية الله إذن من الضلال فى سورة "الضحى" هو الإشارة إلى بحثه عن الحقيقة أيام تحنثه، إذ لا يستطيع الإنسان أن يعرف الحقائق العليا على وجه الدقة واليقين إلا من الله وبهداية منه سبحانه، وهو ما وقع، إذ أنزل الله عليه روح القدس بالوحى القرآنى وكلّفه بحمل رسالته إلى البشر لهدايتهم إلى ما فيه صلاح أمرهم واستقامة حياتهم وسعادة نفوسهم. فهذا هو معنى الهداية من الضلال. وهناك رواية تقول إن محمدا الصغير كان قد تاه ذات يوم، لكن الله أعاده إلى أهله، فهو سبحانه يمنّ عليه بذلك ويذكّره به.
وقد يكون من المفيد للأغبياء من أمثال الكندى المزعوم أن يعرفوا أن أحد معانى "الإضلال" فى القرآن هو عمل الرسول على إبعاد المشركين عن الوثنية والأوثان وهدايتهم إلى نور الحق والتوحيد، وهذا هو المعنى الذى استخدمه المشركون فيه، مما يدل على أن الكلمة قد تعنى عكس ما تعنيه الوثنية تماما. فكيف يصر المأفون على أن "الضلال" فى سورة "الضحى" هو عبادة اللات والعزى؟ قال تعالى: "وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاّ هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً* إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا" (الفرقان/ 41- 42). باختصار: معنى الضلال هو عدم استطاعة الشخص من الوصول إلى الغاية الصحيحة لسبب أو لآخر، وكثيرا ما يحدث هذا لأى منا وهو راجع إلى بيته من طريق غير الذى يعرفه، وبخاصة إذا كان راكبا سيارته فى منطقة جرت فيها تغييرات لم يكن على علم مسبق بها، ولا وثنية ولا يحزنون، فما قولك فى ذلك يا عقل العصفور؟ وهذه شواهد من كتابك أنت لا من القرآن حتى تخرس فلا تنطق لا من فوق ولا من تحت، لعنك الله من فوق ومن تحت: "مَلْعُونٌ مَنْ يُضِلُّ الأَعْمَى عَنِ الطَّرِيقِ" (تثنية/ 27/ 18، والضلال هنا هو الضلال عن الطريق)، "كُفَّ يَا ابْنِي عَنِ اسْتِمَاعِ التَّعْلِيمِ لِلضَّلاَلَةِ عَنْ كَلاَمِ الْمَعْرِفَةِ" (أمثال/ 19/ 7، والضلال فى هذا الشاهد هو ضلال العلم لا الوثنية)، "وَلكِنَّ هؤُلاَءِ أَيْضًا ضَلُّوا بِالْخَمْرِ وَتَاهُوا بِالْمُسْكِرِ. الْكَاهِنُ وَالنَّبِيُّ تَرَنَّحَا بِالْمُسْكِرِ. ابْتَلَعَتْهُمَا الْخَمْرُ. تَاهَا مِنَ الْمُسْكِرِ، ضَلاَّ فِي الرُّؤْيَا، قَلِقَا فِي الْقَضَاء" (إشعيا/ 28/ 7، والضلال هو ذهاب الوعى من الخمر)، "إِنْ كَانَ لإِنْسَانٍ مِئَةُ خَرُوفٍ، وَضَلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا، أَفَلاَ يَتْرُكُ التِّسْعَةَ وَالتِّسْعِينَ عَلَى الْجِبَالِ وَيَذْهَبُ يَطْلُبُ الضَّالَّ. وَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَجِدَهُ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ أَكْثَرَ مِنَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ الَّتِي لَمْ تَضِلَّ" (متى/ 18/ 12، ولا علاقة لها الضلال بالوثنية كما هو جلىّ)، "وَكَانَ فِي الْجُمُوعِ مُنَاجَاةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ نَحْوِهِ. بَعْضُهُمْ يَقُولُونَ:«إِنَّهُ صَالِحٌ». وَآخَرُونَ يَقُولُونَ:«لاَ، بَلْ يُضِلُّ الشَّعْبَ»" (يوحنا/ 7/ 12، والكلام فى النص عن عيسى عليه السلام، ولم يكن اليهود يتهمونه بالوثنية بطبيعة الحال). لقد كان محمد قُبَيْل البعثة يبحث عن الدين الحق ويتحنث فى غار حراء، إلا أن الطريق السليم لبلوغ ذلك الحق صافيا دون أى غبش إنما هو الوحى الإلهى. وهذا الوحى لا يفوز به من الله إلا من يستحقه، فظل محمد يبحث عن الطريق، لكنه لم يهتد إليه حق الاهتداء إلا حين اصطفاه الله وجعله نبيا. أما غيره فقد أراد أن يكون نبيا، وكأن النبوة قرار شخصى يتخذه أى إنسان فيكون له ما أراد، ومن هذه الحالات حالة أمية بن أبى الصلت ومسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسى، وذلك على عكس ما كان يفعل محمد من البحث المخلص عن الحق دون التطلع إلى أن يكون نبيا. وهناك من كان يبحث عن الحق ولا يضع فى اعتباره مسألة النبوة ولم يختره الله مع ذلك، كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل وسلمان الفارسى. ثم فليكن معنى الآية الكريمة بعد كل الذى قلناه هو ما يقول الكندى الكذاب، فكيف يقبل شقها الأول ويرفض شقها الثانى؟ إنها تقول: كان محمد ضالا فهداه الله، لكن الكندى الكذاب يقبل ضلال النبى ويرفض هداه. ترى أمن الممكن القول بأن محمدا يقر بضلاله هكذا على رؤوس الأشهاد وبتلك البساطة؟ الواقع أنه لو كان هذا صحيحا لكان جواب القرشيين على الأقل هو: "طيب يا أخى. ما دام قد سبق لك أن كنتَ ضالا ثم اهتديتَ فاتركنا نحن على ضلالنا حتى يهدينا الله كما هداك. وإذن فعلى رِسْلك ولا تقرّعنا وتهاجم آلهتنا هذا الهجوم العارم!"، لكنهم لم يقولوا له شيئا من ذلك. وعلى كل فقد انتهى أمرهم معه إلى أن دخلوا كلهم فى دينه ورجعوا عن كل ما قالوه فيه، فأثبتوا أنهم كانوا كاذبين فى اتهاماتهم له وأن الحق كان معه طوال الوقت.
ثم فلنفترض ثانية أن كل ما يقوله الكندى الكذاب صحيح وأن محمدا كان يعبد الأوثان قبل البعثة كقومه، فلماذا لا تعامله أيها الكذاب كإبراهيم، الذى قلت بعظمة لسانك إنه كان يعبد العُزَّى مع قومه فى حاران قبل أن يصطفيه الله للرسالة؟ هل مَنَعَتْ إبراهيمَ عبادتُه للعُزَّى فى الجاهلية من أن يكون نبيا؟ فلماذا لا تجرى على نفس المنطق فى حالة محمد عليه الصلاة والسلام، وبخاصة أن كتابك المقدس لا يرى فى مثل هذه الأمور مانعا من أن يكون صاحبها نبيا حتى ولو ارتكبها بعد النبوة، كما هو الوضع فى حالة هارون، الذى تقولون إنه رافأ بنى إسرائيل على عبادتهم للعجل أثناء غياب موسى فوق الجبل للقاء بربه، بل هو الذى صنعه لهم بيديه وشاركهم الرقص عرايا حوله، وكما هو الوضع فى حال سليمان، الذى ساعد بعض زوجاته على ممارسة الوثنية فى قلب بيته ووفر لهن الأصنام التى يعبدنها. إننا بطبيعة الحال لا نعتقد بشىء مما يقوله الكتاب المقدس فى حق هؤلاء الأنبياء، إلا أننى أردت فقط أن أزيح النقاب عن ضمير ذلك الوغد لأُرِىَ القراء مدى التواء ضميره وكراهيته للحق وخضوعه لبواعث الشغب المستكنة فى أغوار قلبه الأسود.
وفى نهاية المطاف أرى أنه ينبغى إيراد ما قاله فى هذه الآية ابن عجيبة صاحب "تفسير البحر المديد في تفسير القران المجيد"، فقد جمع تفاسيرها المختلفة. قال: "وَوَجَدَك ضالا: غافلاً عن الشرائع التي لا تهتدي إليها العقول. فَهَدَى : فهداك إليها، كقوله: " مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ" (الشورى/ 52). وقال القشيري: "أي ضالاًّ عن تفصيل الشرائع فهديناك إليها، وعَرَّفناك تفصيلَها"، أو ضالاًّ عما أنت عليه اليوم من معالم النبوة. ولم يقل أحد من المفسرين: ضالاًّ عن الإيمان. قاله عياض. وقيل: ضلّ في صباه في بعض شِعاب مكة، فردّه أبو جهل إلى عبد المطلب، وقيل: ضلّ مرة أخرى، وطلبوه فلم يجدوه، فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعًا، وتضرّع إلى الله، فسمعوا هاتفاً يُنادِي من السماء: يا معشر الناس، لا تَضِجُّوا، فإنَّ لمحمدٍ ربًّا لا يخذله ولا يُضيّعه، وإنَّ محمدا بوادي تهامة عند شجرة السَّمُر. فسار عبد المطلب وورقة بن نوفل، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم تحت شجرة يلعب بالأغصان والأوراق. وقيل: أضلّته مرضعته حليمة عند باب الكعبة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب. وقيل: ضلّ في طريق الشام حين خرج به أبو طالب. يُرْوَى أن إبليس أخذ بزمام ناقته في ليلة ظلماء فعدل به عن الطريق، فجاء جبريلُ عليه السلام، فنفخ إبليسَ نفخة وقع منها إلى أرض الهند، وردّه إلى القافلة. وقوله تعالى: "فَهَدَى" أي فهداك إلى منهاج الشرائع المنطوية في تضاعيف ما يُوحَى إليك من الكتاب المبين، وعلَّمك ما لم تكن تعلم".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]