ما صحة حديث عائشة التي روت فيه أن الداجن قد أكلت من نسخة القرآن
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد ،،،
كثيراً ما يستشهد أعداء الإسلام للتشكيك في نقل القرآن بحديث عائشة والذي جاء فيه : (( لقد نزلت آية الرجم ، ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشاغلنا بموته ، دخل داجن فأكلها ))
والحق أن هذا الحديث لا يصح فإما ذكر الرضاع فيه غلط ، وقد أخرجه ابن ماجه ( رقم : 1944 ) وأبو يعلى ( رقم 4587 ، 4588 ) من طريق محمد بن اسحاق ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عمرة ، عن عائشة .
وعن عبدالرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عائشة ، به .
قلت : ابن اسحاق صدوق ، ومن كانت هذه صفته فإن حديثه يكون في درجة الحسن بعد النظر الذي يخلص منه إلى نقائه من الخلل ، كذلك هو رجل مشهور بالتدليس مكثر منه ، يدلس عن المجروحين ، وشرط قبول رواية من هذا حاله أن يذكر سماعه ممن فوقه فإذا قال ( عن ) لم يقبل منه .
وابن اسحاق له في هذا الخبر إسنادان كما ترى ، وجمعه الأسانيد بعضها إلى بعض وحمل المتن على جميعها مما عيب عليه ، فربما كان اللفظ عنده بأحد الإسنادين فحمل الآخر عليه ، لأنه حسبه بمعناه ، وقد لا يكون كذلك .
قيل لأحمد بن حنبل : ابن اسحاق إذا تفرد بحديث تقبله ؟ قال : (( لا ، والله إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث الواحد ، ولا يفصل كلام ذا من ذا )) ( تهذيب الكمال ( 24 : 422 ) .
نعم ربما كان يرويه تارةً فيذكر أحد إسناديه ، كذلك أخرجه أحمد ( 6 : 269 ) وابن الجوزي في نواسخ القرآن ( ص : 118 _ 119 ) من طريق إبراهيم بن سعيد ، عنه قال : حدثني عبدالله بن ابي بكر ، فذكره بإسناده دون إسناد ابن القاسم .
وحين رأى بعض الناس تصريح ابن اسحاق بالتحديث في هذه الرواية صححوها ، قالوا اندفعت شبهة تدليسه ، ونقول : فماذا عن شبهة تخليطه ؟
ولنجر الكلام في ظاهر الإسناد الآن في روايته عن ابن قاسم ، هذا على جواز أن يكون ابن اسحاق حفظه بإسناد ابن أبي بكر .
والتحقيق أنه لم يحفظه . . . .
وببعض ما ذكرت تبطل رواية ابن اسحاق ، وإذا كان جماعة من العلماء الكبار كأحمد بن حنبل والنسائي نصوا على أن ابن اسحاق ليس بحجة في الأحكام ، فهو أحرى أن لا يكون حجة تستعمل للتشكيك في نقل القرآن .
قال السرخسي: "حديث عائشة لا يكاد يصحّ ؛ لاَنّ بهذا لا ينعدم حفظه من القلوب، ولا يتعذّر عليهم به إثباته في صحيفة أُخرى، فعرفنا أنّه لاأصل لهذا الحديث .
على ان هناك بعض العلماء الافاضل قد بينوا معنى الحديث والمراد منه فقالوا :
إن التشريع الإسلامي في حياة النبي صلى الله عليه وسلم مر بمراحل عدة حتى وفاته صلى الله عليه وسلم، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومن ذلك وقوع النسخ لبعض الأحكام والآيات، والنسخ عرفه العلماء بأنه: رفع الشارع حكماً منه متقدماً بحكم منه متأخر.
ولم يقع خلاف بين الأمم حول النسخ، ولا أنكرته ملة من الملل قط، إنما خالف في ذلك اليهود فأنكروا جواز النسخ عقلاً، وبناء على ذلك جحدوا النبوات بعد موسى عليه السلام، وأثاروا الشبهة، فزعموا أن النسخ محال على الله تعالى لأنه يدل على ظهور رأي بعد أن لم يكن، وكذا استصواب شيء عُلِمَ بعد أن لم يعلم، وهذا محال في حق الله تعالى.
والقرآن الكريم رد على هؤلاء وأمثالهم في شأن النسخ رداً صريحاً، لا يقبل نوعاً من أنواع التأويل السائغ لغة وعقلاً، وذلك في قوله تعالى : (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)[البقرة:106] فبين سبحانه أن مسألة النسخ ناشئة عن مداواة وعلاج مشاكل الناس، لدفع المفاسد عنهم وجلب المصالح لهم، لذلك قال تعالى: (نأت بخير منها أو مثلها) ثم عقب فقال: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير*ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) والنسخ ثلاثة أقسام:
الأول: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، ومثاله آية الرجم وهي(الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة..) فهذا مما نسخ لفظه، وبقي حكمه.
الثاني: نسخ الحكم والتلاوة معاً: ومثاله قول عائشة رضي الله عنها: (كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات يحرمن) فالجملة الأولى منسوخة في التلاوة والحكم، أما الجملة الثانية فهي منسوخة في التلاوة فقط، وحكمها باق عند الشافعية.
وقولها رضي الله عنها: (ولقد كان………..) أي ذلك القرآن بعد أن نسخ تلاوة (في صحيفة تحت سريري) والداجن: الشاة يعلفها الناس من منازلهم، وقد يقع على غير الشاة من كل ما يألف البيوت من الطير وغيرها.
قال ابن حزم رحمه الله تعالى: (فصح نسخ لفظها، وبقيت الصحيفة التي كتبت فيها كما قالت عائشة رضي الله عنها فأكلها الداجن، ولا حاجة إليها.. إلى أن قال: وبرهان هذا أنهم قد حفظوها، فلو كانت مثبتة في القرآن لما منع أكل الداجن للصحيفة من إثباتها في القرآن من حفظهم وبالله التوفيق.)
وقال ابن قتيبة:
(فإن كان العجب من الصحيفة فإن الصحف في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى ما كتب به القرآن، لأنهم كانوا يكتبونه في الجريد والحجارة والخزف وأشباه هذا.
وإن كان العجب من وضعه تحت السرير فإن القوم لم يكونوا ملوكاً فتكون لهم الخزائن والأقفال والصناديق، وكانوا إذا أرادوا إحراز شيء أو صونه وضعوه تحت السرير ليأمنوا عليه من الوطء وعبث الصبي والبهيمة، وكيف يحرز من لم يكن في منزله حرز ولا قفل ولا خزانة، إلا بما يمكنه ويبلغه وجده، ومع النبوة التقلل والبذاذة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويصلح خفه، ويقول: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد"
وإن كان العجب من الشاة فإن الشاة أفضل الأنعام، فما يعجب من أكل الشاة تلك الصحيفة، وهذا الفأر شر حشرات الأرض، يقرض المصاحف ويبول عليها، ولو كانت النار أحرقت الصحيفة أو ذهب بها المنافقون كان العجب منهم أقل.
وقد أجاب أهل العلم عن هذا الحديث بأجوبة أبسط من هذا يرجع فيها إلى أقوالهم لمن أراد المزيد، وصدق الله تعالى إذ يقول: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذي يستنبطونه منهم)[النساء:83] فلله الحمد والمنة، فنحن على يقين أنه لا يختلف مسلمان في أن الله تعالى افترض التبليغ على رسول صلى الله عليه وسلم، وأنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ كما أمر، قال تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته)[المائدة:67]
وقال تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)[الحجر:9] فصح أن الآيات التي ذهبت لو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغها لبلغها، ولو بلغها لحفظت، ولو حفظت ما ضرها موته، كما لم يضر موته عليه السلام كل ما بلغ من القرآن، وإن كان عليه السلام لم يبلغ أو بلغه ولكن لم يأمر أن يكتب في القرآن فهو منسوخ بتبيين من الله تعالى، لا يحل أن يضاف إلى القرآن. ( كتبه الدكتور. عبد الله الفقيه )