بيان الحديث: "كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وكان عرشه على الماء"
بسم اللهأمر الرحمن الرحيم
والحمد لله الذي رضي لنا الإسلام ديناً، ونصب لنا الدلالة على صحته برهاناً مبيناً، وأوضح السبيل إلى معرفته واعتقاده حقاً يقيناً، ووعد من قام بأحكامه وحفظ حدوده أجراً جسيماً، وذخر لمن وافاه به ثوابا جزيلا وفوزاً عظيماً، وفرض علينا الانقياد له ولأحكامه، والتمسك بدعائمه وأركانه، والاعتصام بعراه وأسبابه. فالحمد لله الذي عافانا من الإلحاد، إما يكون بجحد بصفات الله وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات، وإما بجعلها اسماً لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الإلحاد. رحم الله ابن القيم حيث قال:
لسنا نشبه وصفَه بصفاتنا *** إن المشبِّه عابدُ الأوثان
كلاّ ولا نُخليه من أوصافنا *** إن المعطِّل عابدُ البهتان
من شبَّه الله العظيم بخلقه *** فهو الشبيه لمشْركٍ نصراني
أو عطَّل الرحمن من أوصافه *** فهو الكفور وليس ذا الإيمان
نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، وأن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وأنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، فمن بقي على الهدي الذي كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، علماً واعتقاداً، وقولاً، وعملاً، قد نجا، فالسنة الصحيحة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم خالفها. فالعقيدة يجب أن تُستمد من الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فعقيدة أهل السنة تميزها سلامة مصدر التلقي وذلك باعتمادها على كتاب والسنة، وإجماع السلف الصالح، فهي مستقاة من ذلك النبع الصافي، بعيداً عن كدر الأهواء والشبهات، إذاً عقيدة أهل السنة والجماعة سالمة مسلمة من الدجل والزيف. فمصدر التلقي عند الصوفية هي الكشف، والإلهام، والحدس، والرؤى، والمنامات، أما الرافضة فمصدر التلقي عندهم ما يزعمون أنه موجود في الجفر، وما يقوله أئمتهم (أنظر: أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، للدكتور ناصر القفاري ج2 ص586 وص588 وص609) أما علماء الكلام فمصدر التلقي عندهم هو العقل، ونعوذ بالله من تلك الضلالات.
فالعقيدة يجب أن تتصل سندها بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وأئمة الدين قولاً، وعملاً، واعتقاداً، فلا يوجد - بحمد الله - أصل من أصول أهل السنة والجماعة ليس له أصل أو مستند من كتاب والسنة الصحيحة. فلا نثبت العقيدة إلا من الحديث المسند، الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً، ولا معللاً. وفي هذه الأوصاف احتراز عن المرسل، والمنقطع، والمعضل، والشاذ، وما فيه علة قادحة، وما في راويه نوع جرح. فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث. وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه، أو: لاختلافهم في اشتراط بعض هذه الأوصاف، كما في المرسل. ومتى قالوا: هذا حديث صحيح، فمعناه: أنه اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة. وليس من شرطه أن يكون مقطوعاً به في نفس الأمر، إذ منه ما ينفرد بروايته عدل واحد، وليس من الأخبار التي أجمعت الأمة على تلقيها بالقبول. وكذلك إذا قالوا في حديث: إنه غير صحيح، فليس ذلك قطعاً بأنه كذب في نفس الأمر، إذ قد يكون صدقاً في نفس الأمر، وإنما المراد به: أنه لم يصح إسناده على الشرط المذكور. (مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، لابن الصلاح، ص9) فإن حديث أبي رزين العقيلي، قلت يا رسول الله: "أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: "في عماء، ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء" ذو إسناد ضعيف، فقد ضعفه الإمام الألباني - رحمه الله (أنظر: تخريج كتاب السنة لابن أبي عاصم ج1 ص272، وأنظر: مشكاة المصابيح ج3 ص1095) فمدار هذا الحديث على وكيع بن حدس أو عدس على اختلاف اسمه، فقد ذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال ابن قتيبة: غير معروف، وقال القطان: مجهول الحال، وقال عنه الحافظ: بأنه مقبول، وذكر الذهبي أنه لا يعرف وتفرد عنه يعلى بن عطاء. (أنظر: تأويل مختلف الحديث ص150، وأنظر: الجرح والتعديل ج9 ص36، وأنظر: تهذيب التهذيب ج11 ص131، أنظر: التقريب ص581، وأنظر: ميزان الاعتدال ج4 ص335) والحديث بهذا الإسناد ضعيف والله أعلم.
فهذا الحديث رواه الترمذي (ج5 ص288 رقم 3109، كتاب التفسير القرآن، باب ومن سورة هود) وقال: هذا الحديث حسن. فالحديث الحسن قسمان:
1) الحديث الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلاً كثير الخطأ فيما يرويه، ولا هو متهم بالكذب في الحديث - أي لم يظهر منه تعمد الكذب في الحديث ولا سبب آخر مفسق - ويكون متن الحديث مع ذلك قد عرف، بأن روي مثله أو نحوه من وجه آخر أو أكثر، حتى اعتضد بمتابعة من تابع راويه على مثله، أو بما له من شاهد، وهو ورود حديث آخر بنحوه، فيخرج بذلك عن أن يكون شاذاً ومنكراً، وكلام الترمذي على هذا القسم يتنزل.
2) أن يكون راويه من المشهورين بالصدق والأمانة، غير أنه لم يبلغ درجة رجال الصحيح، لكونه يقصر عنهم في الحفظ والإتقان، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يعد ما ينفرد به من حديثه منكرا، ويعتبر في كل هذا مع - سلامة الحديث من أن يكون شاذاً ومنكرا - سلامته من أن يكون معللاً.
فقد قال بعض المتأخرين: الحديث الذي فيه ضعف قريب محتمل هو الحديث الحسن، ويصلح للعمل به.
فالحديث:
حدثنا عبد الله حدثني أبي قال حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة قال أخبرني يعلى بن عطاء عن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي أنه قال: "يا رسول الله أين كان ربنا عز وجل قبل أن يخلق السموات والأرض قال في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ثم خلق عرشه على الماء" (أخرجه أحمد في مسنده)
لا يوجب الإيمان بأن لله فوق، إلا من جهل لغة العرب. وقوله "في عماء" وجدته في كتاب عماء مقيداً بالمد، فإن كان في الأصل ممدوداً فمعناه سحاب رقيق. والمراد في قوله: "في عماء" أي فوق سحاب مدبراً له وعالياً عليه كما قال سبحانه وتعالى {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء} (الملك:16) يعني من فوق السماء كما في قوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (طه:71) يعني على جذوعها، وقال ابن الأثير: العماء في اللغة: السحاب الرقيق، وقيل الكثيف، وقيل هو الضباب، ولا بد في الحديث من حذف مضاف تقديره: أين كان عرش ربنا فخذف ويدل على هذا المحذرف قوله تعالى "وكان عرشه على الماء" وحكى عن بعضهم في العمى المقصور. أنه هو كل أمر لا يدركه الفطن. وقال الأزهري قال أبو عبيد: إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا تدري كيف كان ذلك العماء، وقال: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته. وقوله" "ما فوقه هواء" أي ما فوق السحاب هواء، وكذلك قوله "ما تحته هواء" أي ما تحت السحاب هواء؛ الضمير في "ما فوقه هواء وما تحته هواء" يرجع بظاهره إلى العماء: أي السحاب. (أنظر: الأسماء والصفات، للبهيقي ج2 ص150) وقال السيوطي في مصباح الزجاجة: قال القاضي ناصر الدين بن المنير، وجه الإشكال في الحديث الظرفية والفوقية والتحتية... إلى قوله: كان مستولياً على هذا السحاب الذي فوقه الهواء وتحته الهواء، وروى بلفظ القصر في العمى. والمعنى عدم ما سواه كأنه قال: كان ولم يكن معه شيء، بل كل شيء كان عدماً عمى لا موجوداً ولا مدركاً، والهواء الفراغ أيضاً العدم كأنه قال: كان ولا شيء معه ولا فوق ولا تحت.
ونقول: إن صحت الرواية عمى بالقصر فلا إشكال في هذا الحديث، وهو حينئذ في معنى الذي حدثنا به عبدان، عن أبي حمزة، عن الأعمش، عن جامع بن شدَّاد، عن صفوان بن محرز، عن عمران بن حصين قال:
إني عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال: "اقبلوا البشرى يا بني تميم". قالوا: بشَّرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن، فقال: "اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم". قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان، قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء". (رواه البخاري، ج4 كتاب التوحيد) وإن صحت الرواية عماء باملد، فلا حاجة إلى تأويل بل يقال نحن نؤمن به ولا نكيفه بصفة، أي نجري اللفظ على ما جاء عليه من غير تأويل.
هذا والله أسأل أن يصعد هذا ذروة القبول، ويجعله خالصاً لذاته الكريمة، وينفع به من ضل عن سبيله، ويرخي على زلات جامعة من عفوه وعافيته وغفرانه ورضوانه أطول الذيول، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه انه على كل شئ قدير. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. ربنا عاملنا بلطفك ورحمتك ما أبقيتنا، وتعطف علينا في عرصات الآخرة يا خير مأمول، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه أجمعين، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.