خاب خطاهم ، و ضل مسعاهم ، و ردّ الله كيدهم في نحورهم
حديث ( رضاع الكبير ) بين الجرأة على السنة والفهم المغلوط لها
بين الحين والآخر نرى ضجة مثارة حول حديث من الأحاديث النبوية الصَّحيحة وسرعان ما يتحول الأمر لمعركة تدور رَحَاهَا ما بين مؤيِّدٍ ومنافح ، و معترض وساخر ، وما بين مدافع بغير علم – يفسد أكثر مما يصلح - ومغرض مُسْتَغِلّ يُوَظِّف المسألة لإلحاده ونشر باطله إمعانًا في تشويه صورة الإسلام والمسلمين . ثم ينتهي الأمر بعد ذلك لفوضى فكرية يضيع فيها الحق وسط ركام هائل من الباطل .
وحديث ( رضاع الكبير ) خير مثال على ما نقول ؛ فقد تابعت منذ فترة اللغط المثار حول الحديث في بعض برامج الفضائيات وتعجبت وقتها من جرأة المكذبين والطاعنين والمستهزئين ومن تهاون بعض المتصدِّين لدفع الشبهات عن الحديث وتنازله عن وقار العلماء وقبوله لحضور هذه البرامج الإثارية المغرضة التافهة التي تصبُّ في نهاية الأمر لصالح أعداء الإسلام ! فالناظر للمواقع التبشيرية والإلحادية يرى أنها لا هَمَّ لها إلا الكلام على مثل هذه الأحاديث المُشْكِلة لتصد الناس عن دينهم وتصرفهم عما ينفعهم وكأن دين الله على سعته وامتداده قد توقف عند هذه القضية الجزئية الخاصة أو الحديث الخاص بواقعة محددة .
ولما كان هناك نفر - ممن ينسب نفسه للعلم – يفسِّر الحديث على وجه مغلوط ؛ مما يعزز جرأة هؤلاء الطاعنين ويفتح الباب على مصراعيه للإفساد في الدين ؛ رأيت من واجبي كمسلم أن أدفع عن الحديث طعن المكذبين وتحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين . فأقول وبالله التوفيق :
أولا : الحديث ثابت وصحيح ولا ريب فيه . وهو في الصحيحين : البخاري ( 4000 ، 5088 ) ومسلم ( 1453 ) ، وهو على العين والرأس . وثبت في غيرهما من كتب السنة المطهرة . ولكنه مُشْكِل ويحتاج لإيضاح ، لأن الكثيرين ممن خاضوا فيه لم يعلموا سبب وروده ولا تصريف أهل العلم لوجوه الفهم فيه التي تتسق مع الثابت المستفيض من السنة النبوية المطهرة .
وقصة الحديث تتلخص في : أن أبا حذيفة كان قد تبنى سالما قبل أن يبطل التبني يعني اتخذه ابنا له وصار كابنه تماما يدخل البيت وزوجة أبي حذيفة لا تحتجب عنه لأنه ابنها . فلما أبطل الله تعالى التبني صار سالم ـ وقد كبر ـ أجنبيا من " سهلة " امرأة أبي حذيفة التي جاءت تشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : إنَّ سالما كان أبو حذيفة قد تبناه يدخل علينا ونكلمه ، وقد بَطَلَ التبني ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : (( أرْضِعيه تَحْرُمِي عَلَيه )) . ولا شك أن سالما لم يرضع مباشرة من ثدي امرأة أبي حذيفة ، كما يُصَوّر أهل الأفك ..
ثانيا : الفريق الذي يَرُدُّ الحديث ويكذّبه . يُقَال له : الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم كما يقول الإمام السمعاني : (( الأخذ بسنته التي صَحَّت عنه والخضوع لها والتَّسليم لأمره صلى الله عليه وسلم )) . ومن تمام ذلك : أن لا تُعَارِض حديثه صلى الله عليه وسلم بخيال باطل أو تسارع لتكذيب الحديث بمجرد توارد إشكال على ذهنك أو لمجرد أن رأيت من يُفَسّره بصورة خاطئة أو من يستهزئ به لجهله العميق وغرضه اللئيم ، وإنما تبحث عن الفهم السليم له والذي يتسق مع الثابت المستفيض في قضيته في أبواب السنة .
وإذا كان الحديث مشكلا بالنسبة لنا فينبغي أن نرده للمحكم الواضح . والإشكال في الحديث هو الالتباس والخفاء . فقد يشكل على بعض الناس ويلتبس عليهم الأمر فيظنون أن حديثا يناقض حديثا آخر أو يخالف القرآن أو اللغة أو العقل أو الحس .. إلخ . وهنا تظهر براعة المحدثين والفقهاء برفع هذا الإشكال بالتوفيق بين الحديثين المتعارضين ، وذلك في علم خاص أطلقوا عليه اسم " علم مختلف الحديث " أو " علم مشكل الحديث " .كما ينبغي الرجوع إلى المختصين في الكلام على الأحاديث المشكلة فما عرفناه عملنا به وما جهلناه رددناه إلى عالمه وسألنا بأدب أهل الاختصاص للاستيضاح وإزالة الإشكال .
ثالثًا : وإليك القول الفصل لحل الإشكال عن الحديث ، وبيان الفهم السديد لمراد النبي صلى الله عليه وسلم منه .
(1) فيقال لمن زعم : " أن من كانت حاله وحاجته مثل حاجة سالم جاز له الأمر " : إن حالة سالم مولى أبي حذيفة حالة نادرة ومرتبطة بلحظة تشريعية لن تتكرر . ومن سوى بين الحاجتين فقد أخطأ بدليل أن حاجة سالم غير ممكنة ولن تنطبق على أحد بعده ، فسالم حضر إباحة التبني وكان ابنا بالتبني لأبي حذيفة وحضر بطلان التبني !! وإلى هذا التوجيه السَّديد أشار شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله ، فقال في ( الشرح الممتع 13 / 436 ) : (( ليس مطلق الحاجة بل الحاجة الموازية لقصة سالم والحاجة الموازية لقصة سالم غير ممكنة لأن التبني أبطل فلما انتفت الحال انتفى الحكم )) اهـ . فمَنْ مِن الناس اليوم له مثل حكم سالم في التبني ؟ لا أحد . ثم بعد بطلان التبني احتاج سالم لهذا الحكم فكان جواب النبي صلى الله عليه وسلم لحاجته هذه التي لا تنطبق على غيره ، فهي حالة خاصة انتهت بانتهاء أطرافها .
(2) ومما يؤكد هذا الجواب - كما يبين ابن عثيمين - أن رضاع الكبير مُحَرَّم ولا يجوز : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : (( إيَّاكُم والدُّخول على النِّساء )) قالوا يارسول الله ، أرأيت الحمو – وهو قريب الزوج كأخيه مثلا – قال : (( الحمو الموت )) رواه البخاري ( 5232 ) ومسلم ( 2172 ) . وكلنا يعلم أن الحمو في حاجة لأن يدخل بيت أخيه إذا كان البيت واحدا ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : " الحمو ترضعه زوجة أخيه " مع أن الحاجة ماسة لدخوله . فدل هذا على تحريمه للغير من باب أولى !
(3) إننا لو فتحنا الباب للقول بهذا الفهم - مع ما يُتَرَبَّص بالسنة من أحقاد الطاعنين على اختلاف صورهم وأشكالهم - لكان فيه مفسدة عظيمة . ولذا قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : (( والخلاصة : بعد انتهاء التبني نقول لا يجوز إرضاع الكبير ، ولا يؤثر إرضاع الكبير بل لا بد إما أن يكون في الحولين وإما أن يكون قبل الفطام وهو الراجح )) اهـ ، أي أن الرضاعة المحركة لا تكون إلا مع الطفل الذي لم يتجاوز العامين فقط . وقال الشيخ ابن باز رحمه الله : (( حديث سالم مولى أبي حذيفة خاص بسالم كما هو قول الجمهور لصحة الأحاديث الدالة على أنه لا رضاع إلا في الحولين وهذا هو الذي نفتي به )) اهـ (( مجموع فتاوى ابن باز 22 / 264 ) .
وأخيرا : فليتق الله من يجترئ على تكذيب حديث النبي صلى الله عليه وسلم بجهله ورعونته ، وليتق الله كذلك من يحرّف حديث النبي ويؤوله على هواه فيفتن الناس في دينهم ، ولنحذر ممن يُدْخل أنفه في غير فنه ؛ فقديما قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله : (( من تحدَّث في غير فنه أتى بالعجائب )) .
أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بَطَن . والحمد لله رب العالمين .