صفات الذين
يدخلون الجنة من أمة سيدنا محمد بلا حساب ولا عقاب
عن عمران بن ميسرة حدثنا ابن فضيل حدثنا حصين قال أبو عبد
الله و حدثني أسيد بن زيد حدثنا هشيم عن حصين قال كنت
عند سعيد بن جبير فقال حدثني ابن عباس قال (قال النبي
صلى الله عليه وسلم عرضت علي الأمم فأخذ النبي يمر معه الأمة والنبي
يمر معه النفر والنبي يمر معه العشرة والنبي يمر معه الخمسة والنبي يمر
وحده فنظرت فإذا سواد كثير قلت يا جبريل هؤلاء أمتي قال لا ولكن انظر
إلى الأفق فنظرت فإذا سواد كثير قال هؤلاء أمتك وهؤلاء سبعون ألفا قدامهم
لا حساب عليهم ولا عذاب قلت ولم قال كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا
يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام إليه عكاشة بن محصن فقال ادع الله أن
يجعلني منهم قال اللهم اجعله منهم ثم قام إليه رجل آخر قال ادع الله أن
يجعلني منهم قال سبقك بها عكاشة )
الراوي: عبدالله بن عباس - خلاصة الدرجة: صحيح - المحدث: البخاري - المصدر:
الجامع الصحيح - الصفحة أو الرقم: 6541
وفيما يلى سنعرض معنى وشرح قوله ( لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى
ربهم يتوكلون ) _المصدر من فتح الباري بشرح صحيح البخاري_: :
أولا : معنى قوله ( لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون )
:
سلك الكرماني في الصفات المذكورة مسلك التأويل فقال : قوله " لا يكتوون "
معناه إلا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي .
وقوله " ويسترقون " معناه بالرقى التي ليست في القرآن والحديث الصحيح كرقى
الجاهلية وما لا يؤمن أن يكون فيه شرك.
وقوله " ولا يتطيرون " أي لا يتشاءمون بشيء فكأن المراد أنهم الذين يتركون
أعمال الجاهلية في عقائدهم .
قال : فإن قيل إن المتصف بهذا أكثر من العدد المذكور فما وجه الحصر فيه ؟
وأجاب باحتمال أن يكون المراد به التكثير لا خصوص العدد .
شرح قوله ( كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) _
الشرح من فتح الباري بشرح صحيح البخاري_:
اتفق على ذكر هذه الأربع معظم الروايات في حديث ابن عباس وإن كان عند
البعض تقديم وتأخير , وكذا في حديث عمران بن حصين عند مسلم , وفي لفظ له
سقط " ولا يتطيرون " هكذا في حديث ابن مسعود وفي حديث جابر اللذين أشرت
إليهما بنحو الأربع , ووقع في رواية سعيد بن منصور عند مسلم " ولا يرقون "
بدل " ولا يكتوون "
وقد أنكر الشيخ تقي الدين بن تيمية هذه الرواية وزعم أنها غلط من راويها ,
واعتل بأن الراقي يحسن إلى الذي يرقيه فكيف يكون ذلك مطلوب الترك ؟ وأيضا
فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ورقى النبي أصحابه وأذن لهم في
الرقى وقال " من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل " والنفع مطلوب .
قال : وأما المسترقي فإنه يسأل غيره ويرجو نفعه , وتمام التوكل ينافي ذلك .
قال : وإنما المراد وصف السبعين بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ,
ولا يكويهم ولا يتطيرون من شيء .
وأجاب غيره بأن الزيادة من الثقة مقبولة وسعيد بن منصور حافظ وقد اعتمده
البخاري ومسلم واعتمد مسلم على روايته هذه وبأن تغليط الراوي مع إمكان
تصحيح الزيادة لا يصار إليه .
والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المسترقي لأنه اعتل بأن الذي لا
يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل فكذا يقال له والذي يفعل غيره به ذلك
ينبغي أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكل , وليس في وقوع ذلك من جبريل دلالة
على المدعى ولا في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له أيضا دلالة لأنه في
مقام التشريع وتبين الأحكام , ويمكن أن يقال إنما ترك المذكورون الرقى
والاسترقاء حسما للمادة لأن فاعل ذلك لا يأمن أن يكل نفسه إليه وإلا
فالرقية في ذاتها ليست ممنوعة وإنما منع منها ما كان شركا أو احتمله ومن ثم
قال صلى الله عليه وسلم " اعرضوا علي رقاكم , ولا بأس بالرقى ما لم يكن
شرك " ففيه إشارة إلى علة النهي كما تقدم تقرير ذلك واضحا في كتاب الطب .
وقد نقل القرطبي عن غيره أن استعمال الرقى والكي قادح في التوكل بخلاف سائر
أنواع الطب , وفرق بين القسمين بأن البرء فيهما أمر موهوم وما عداهما محقق
عادة كالأكل والشرب فلا يقدح , قال القرطبي وهذا فاسد من وجهين : أحدهما
أن أكثر أبواب الطب موهوم , والثاني أن الرقى بأسماء الله تعالى تقتضي
التوكل عليه والالتجاء إليه والرغبة فيما عنده والتبرك بأسمائه , فلو كان
ذلك قادحا في التوكل لقدح الدعاء إذ لا فرق بين الذكر والدعاء , وقد رقي
النبي صلى الله عليه وسلم ورقى وفعله السلف والخلف , فلو كان مانعا من
اللحاق بالسبعين أو قادحا في التوكل لم يقع من هؤلاء وفيهم من هو أعلم
وأفضل ممن عداهم .
وتعقب بأنه بنى كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقا ,
وليس كذلك لما سأبينه , وجوز أبو طالب بن عطية في " موازنة الأعمال " أن
السبعين المذكورين هم المراد بقوله تعالى ( والسابقون السابقون أولئك
المقربون في جنات النعيم ) فإن أراد أنهم من جملة السابقين فمسلم وإلا فلا .
وقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال "
أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا وفيه " وعدني ربي أن
يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا بغير حساب , وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى
تبوءوا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة " فهذا يدل على أن
مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم أنهم أفضل من غيرهم , بل فيمن
يحاسب في الجملة من يكون أفضل منهم وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته
وعرف مقامه من الجنة يشفع في غيره من هو أفضل منهم , وسأذكر بعد قليل من
حديث أم قيس بنت محصن أن السبعين ألفا ممن يحشر من مقبرة البقيع بالمدينة
وهي خصوصية أخرى .
قوله ( ولا يتطيرون ) تقدم بيان الطيرة في كتاب الطب , والمراد أنهم لا
يتشاءمون كما كانوا يفعلون في الجاهلية .
قوله ( وعلى ربهم يتوكلون ) يحتمل أن تكون هذه الجملة مفسرة لما تقدم من
ترك الاسترقاء والاكتواء والطيرة , ويحتمل أن تكون من العام بعد الخاص لأن
صفة واحدة منها صفة خاصة من التوكل وهو أعم من ذلك , وقد مضى القول في
التوكيل في " باب ومن يتوكل على الله فهو حسبه " قريبا .
وقال القرطبي وغيره : قالت طائفة من الصوفية لا يستحق اسم التوكل إلا من لم
يخالط قلبه خوف غير الله تعالى , حتى لو هجم عليه الأسد لا ينزعج , وحتى
لا يسعى في طلب الرزق لكون الله ضمنه له .
وأبى هذا الجمهور وقالوا : يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله ويوقن بأن قضاءه
واقع , ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد له منه من مطعم
ومشرب وتحرز من عدو بإعداد السلاح وإغلاق الباب ونحو ذلك ,
ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعا
ولا تدفع ضرا , بل السبب والمسبب فعل الله تعالى والكل بمشيئته , فإذا وقع
من المرء ركون إلى السبب قدح في توكله , وهم مع ذلك فيه على قسمين : واصل
وسالك , فالأول صفة الواصل وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب ولو تعاطاها ,
وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانا إلا أنه قد يدفع ذلك عن
نفسه بالطرق العلمية والأذواق الحالية إلى أن يرتقي إلى مقام الواصل .
وقال أبو القاسم القشيري : التوكل محله القلب , وأما الحركة الظاهرة فلا
تنافيه إذا تحقق العبد أن الكل من قبل الله , فإن تيسر شيء فبتيسيره وإن
تعسر فبتقديره .
ومن الأدلة على مشروعية الاكتساب ما تقدم في البيوع من حديث أبي هريرة رفعه
" أفضل ما أكل الرجل من كسبه , وكان داود يأكل من كسبه " فقد قال تعالى (
وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم ) وقال تعالى ( وخذوا حذركم ) .
وأما قول القائل كيف تطلب ما لا تعرف مكانه فجوابه أنه يفعل السبب المأمور
به ويتوكل على الله فيما يخرج عن قدرته فيشق الأرض مثلا ويلقي الحب ويتوكل
على الله في إنباته وإنزال الغيث له , ويحصل السلعة مثلا وينقلها ويتوكل
على الله في إلقاء الرغبة في قلب من يطلبها منه , بل ربما كان التكسب واجبا
كقادر على الكسب يحتاج عياله للنفقة فمتى ترك ذلك كان عاصيا .
وسلك الكرماني في الصفات المذكورة مسلك التأويل فقال : قوله " لا يكتوون "
معناه إلا عند الضرورة مع اعتقاد أن الشفاء من الله لا من مجرد الكي ,
وقوله " ويسترقون " معناه بالرقى التي ليست في القرآن والحديث الصحيح كرقى
الجاهلية وما لا يؤمن أن يكون فيه شرك.
وقوله " ولا يتطيرون " أي لا يتشاءمون بشيء فكأن المراد أنهم الذين يتركون
أعمال الجاهلية في عقائدهم . قال : فإن قيل إن المتصف بهذا أكثر من العدد
المذكور فما وجه الحصر فيه ؟ وأجاب باحتمال أن يكون المراد به التكثير لا
خصوص العدد .
قلت : الظاهر أن العدد المذكور على ظاهره , فقد وقع في حديث أبي هريرة ثاني
أحاديث الباب وصفهم بأنهم " تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر " ومضى في
بدء الخلق من طريق عبد الرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة رفعه " أول زمرة
تدخل الجنة على صورة القمر , والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء
إضاءة " وأخرجه مسلم من طرق عن أبي هريرة : منها رواية أبي يونس وهمام عن
أبي هريرة " على صورة القمر " وله من حديث جابر " فتنجو أول زمرة وجوههم
كالقمر ليلة البدر سبعون ألفا لا يحاسبون " وقد وقع في أحاديث أخرى أن مع
السبعين ألفا زيادة عليهم , ففي حديث أبي هريرة عند أحمد والبيهقي في البعث
من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " سألت ربي فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي " فذكر الحديث نحو سياق
حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ثاني أحاديث الباب وزاد " فاستزدت فزادني
مع كل ألف سبعين ألفا " وسنده جيد , وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني
وعن حذيفة عند أحمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند ابن أبي عاصم , فهذه
طرق يقوي بعضها بعضا وجاء في أحاديث أخرى من ذلك : فأخرج الترمذي وحسنه
والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة رفعه " وعدني ربي أن يدخل
الجنة من أمتي سبعين ألفا مع كل ألف سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب ,
وثلاث حثيات من حثيات ربي " وفي صحيح ابن حبان أيضا والطبراني بسند جيد من
حديث عتبة بن عبد نحوه بلفظ " ثم يشفع كل ألف في سبعين ألفا , ثم يحثي ربي
ثلاث حثيات بكفيه " وفيه " فكبر عمر , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن
السبعين ألفا يشفعهم الله في آبائهم وأمهاتهم وعشائرهم وإني لأرجو أن يكون
أدنى أمتي الحثيات " وأخرجه الحافظ الضياء وقال : لا أعلم له علة . قلت :
علته الاختلاف في سنده , فإن الطبراني أخرجه من رواية أبي سلام حدثني عامر
بن زيد أنه سمع عتبة , ثم أخرجه من طريق أبي سلام أيضا فقال " حدثني عبد
الله بن عامر أن قيس بن الحارث حدثه أن أبا سعيد الأنماري حدثه " فذكره
وزاد " قال قيس فقلت لأبي سعيد : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
قال : نعم , قال : وقال رسول صلى الله عليه وسلم : وذلك يستوعب مهاجري أمتي
ويوفي الله بقيتهم من أعرابنا " وفي رواية لابن أبي عاصم قال أبو سعيد "
فحسبنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغ أربعة آلاف ألف وتسعمائة ألف
" يعني من عدا الحثيات وقد وقع عند أحمد والطبراني من حديث أبي أيوب نحو
حديث عتبة بن عبد وزاد " والخبيئة - بمعجمة ثم موحدة وهمزة وزن عظيمة - عند
ربي " وورد من وجه آخر ما يزيد على العدد الذي حسبه أبو سعيد الأنماري ,
فعند أحمد وأبي يعلى من حديث أبي بكر الصديق نحوه بلفظ " أعطاني مع كل واحد
من السبعين ألفا سبعين ألفا " وفي سنده راويان أحدهما ضعيف الحفظ والآخر
لم يسم . وأخرج البيهقي في البعث من حديث عمرو بن حزم مثله وفيه راو ضعيف
أيضا , واختلف في سنده وفي سياق متنه . وعند البزار من حديث أنس بسند ضعيف
نحوه , وعند الكلاباذي في " معاني الأخبار " بسند واه من حديث عائشة " فقدت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فاتبعته فإذا هو في مشربة يصلي ,
فرأيت على رأسه ثلاثة أنوار , فلما قضى صلاته قال : رأيت الأنوار ؟ قلت :
نعم . قال : إن آتيا أتاني من ربي فبشرني أن الله يدخل الجنة من أمتي سبعين
ألفا بغير حساب ولا عذاب , ثم أتاني فبشرني أن الله يدخل من أمتي مكان كل
واحد من السبعين ألفا سبعين ألفا بغير حساب ولا عذاب , ثم أتاني فبشرني أن
الله يدخل من أمتي مكان كل واحد من السبعين ألفا المضاعفة سبعين ألفا بغير
حساب ولا عذاب , فقلت يا رب لا يبلغ هذا أمتي قال أكملهم لك من الأعراب ممن
لا يصوم ولا يصلي " قال الكلاباذي : المراد بالأمة أولا أمة الإجابة ,
وبقوله آخرا أمتي أمة الاتباع , فإن أمته صلى الله عليه وسلم على ثلاثة
أقسام : أحدها أخص من الآخر أمة الاتباع ثم أمة الإجابة ثم أمة الدعوة ,
فالأولى أهل العمل الصالح والثانية مطلق المسلمين والثالثة من عداهم ممن
بعث إليهم , ويمكن الجمع بأن القدر الزائد على الذي قبله هو مقدار الحثيات ,
فقد وقع عند أحمد من رواية قتادة عن النضر بن أنس أو غيره عن أنس رفعه "
إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف , فقال أبو بكر : زدنا
يا رسول الله , فقال : هكذا وجمع كفيه , فقال : زدنا . فقال وهكذا . فقال
عمر حسبك أن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحدة , فقال النبي صلى الله
عليه وسلم : صدق عمر " وسنده جيد لكن اختلف على قتادة في سنده اختلافا
كثيرا
اللهم أرزقنا الفردوس الأعلى من جنة النعيم بلا حساب ولا عقاب